سورة الفرقان - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


يقول الحق جل جلاله: {تبارك} أي: تكاثر خيره وتزايد، أو: دام واتصل. وهي كلمة تعظيم لم تستعمل إلا لله، والمستعمل منها الماضي فقط، والتفاعل فيها للمبالغة. ومعناها راجع إلى ما يفيض سبحانه على مخلوقاته من فنون الخيرات، التي من جملتها: تنزيل القرآن، المنطوي على جميع الخيرات الدينية والدنيوية، أي: تعاظم {الذي نَزَّلَ الفرقانَ} أي: القرآن، مصدر فرق بين اثنين، إذا فصل بينهما. سمي به القرآن؛ لفصله بين الحق والباطل، والحلال والحرام، أو: لأنه لم ينزل جملة، ولكن مفروقاً مفصولاً بين أجزائه شيئاً فشيئاً، ألا ترى إلى قوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ} [الإسراء: 106].
أنزله {على عبده} محمد صلى الله عليه وسلم، وإيراده- عليه الصلاة والسلام- بذلك العنوان؛ لتشريفه، والإيذان بكونه في أقصى مراتب العبودية، والتنبيه على أن الرسل لا يكون إلا عبداً للمُرسل؛ رداً على النصارى. أنزله {ليكون} العبد المنزل عليه، أو الفرقان {للعالمين} من الثقلين، زاد بعضهم: والملائكة أرسل إليهم ليتأدبوا بأدبه، حيث لم يقف مع مقام ولا حال، ويقتبسوا من أنواره، وهو حكمة الإسرار، وقيل: حتى إلى الحيوانات والجمادات، أُمرت بطاعته فيما يأمرها به، وبتعظيمه- عليه الصلاة والسلام- وهذا كله داخل في العالمين؛ لأن ما سوى الله كله عالم؛ كما تقدم في الفاتحة. وعموم الرسالة من خصائصه- عليه الصلاة والسلام-. {نذيراً} أي: مخوِّفاً، وعدم التعرض للتبشير؛ لأن الكلام مسوق لأحوال الكفرة، ولا بشارة لهم.
{الذي له مُلكُ السموات والأرضِ} أي: له، خاصةً، دون غيره، لا استقلالاً ولا اشتراكاً. فالقهرية لازمة لهما، المستلزمة للقدرة التامة والتصرف الكلي، إيجاداً وإعداماً، وإحياءً وإماتةً، وأمراً ونهياً، {ولم يتخذ ولداً} كما زعم اليهود والنصارى في عزير والمسيح- عليهما السلام-، {ولم يكن له شريك في المُلْك} كما زعمت الثنوية القائلون بتعدد الآلهة، والرد في نحورهم.
{وخَلَقَ كلَّ شيء} أي: أحدث كل شيء وحده، لا كما تقول المجوس والثنوية من النور والظلمة. أي: أظهر كل شيء {فقدَّره} أي: فهيأه لِمَا أراد به من الخصائص والأفعال اللائقة به، {تقديراً} بديعاً، لا يقادر قدره، ولا يُبلغ كنهه؛ كتهيئة الإنسان للفهم والإدراك، والنظر والتدبير في أمور المعاش والمعاد، واستنباط الصنائع المتنوعة، والدلائل المختلفة، على وجود الصانع. أو: فقدَّره للبقاء إلى أبد معلوم. وأيّاً ما كان، فالجملة تعليل لما قبلها، فإن خلقه تعالى لجميع الأشياء على ذلك الشكل البديع والنظام الرائق، وكل ما سواه تحت قهره وسلطانه، كيف يتوهم أنه ولد الله سبحانه، أو شريكٌ له في ملكه. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
الإشارة: عبّر بالعبودية في التنزيل والإسراء؛ إشارة إلى أن كل من تحقق بالعبودية الكاملة له حفظ من تنزيل الفرقان على قلبه، حتى يفرق بين الحق والباطل، وحظ من الإسراء بروحه إلى عالم الملكوت والجبروت، حتى يعاين عجائب أسرار ربه.
وما منع الناس من تنزل العلوم اللدنية على قلوبهم، ومن العروج بروحهم، إلا عدم التحقق بالعبودية الكاملة لربهم، حتى يكون مع مراده، لا مع مرادهم، لا يريدون إلا ما أراد، ولا يشتهون إلا ما يقضي، قد تحرروا من رقِّ الأشياء، واتحدت عبوديتهم للواحد الأعلى. فإذا كانوا كذلك صاروا خلفاء الأنبياء، يُعرج بأرواحهم، ويُوحى إلى قلوبهم ما يفرقون به من الحق والباطل، ليكونوا نُذراً لعالمي زمانه؛ قال تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]. وبالله التوفيق.


يقول الحق جل جلاله: {واتخذوا} أي: الكفار المدرجون تحت العالمين المنذَرين، اتخذوا لأنفسهم {من دونه} تعالى {آلهة}؛ أصناماً، يعبدونها ويستعينون بها، وهم {لا يَخْلُقُون شيئاً} أي: لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء، {وهم يخْلَقُون} كسائر المخلوقات. والمعنى أنهم آثروا على عبادة من هو منفرد بالألوهية والخلق، والملك والتقدير، عباداً عجزة، لا يقدرون على خلق شيء، وهم مخلوقون ومصورون. {ولا يملكون لأنفسهم ضَراً ولا نفعاً} أي: لا يستطيعون لأنفسهم دفع ضر عنها، ولا جلب نفع لها. وهذا بيان لغاية عجزهم وضعفهم؛ فإن بعض المخلوقين ربما يملك دفع ضر وجلب نفع في الجملة، وهؤلاء لا يقدرون على شيء البتة، فكيف يملكون نفع مَنْ عبدَهم، أو ضرر من لم يعبدهم؟!
{ولا يملكون موتاً} أي: إماتة {ولا حياةً} أي: إحياء {ولا نشوراً}؛ بعثاً بعد الموت، أي: لا يقدرون على إماتة حي، ولا نفخ الروح في ميت، ولا بعث للحساب والعقاب. والإله يجب أن يكون قادراً على جميع ذلك. وفي إيذان بغاية جهلهم، وسخافة عقولهم، كأنهم غير عارفين بانتفاء ما نُفي عن آلهتهم مما ذكر، مفتقرون إلى التصريح لهم بها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من ركن إلى غير الله، أو مال بمحبته إلى شيء سواه، فقد اتخذ من دونه إلهاً يعبده من دون الله. وكل من رفع حاجته إلى غير مولاه، فقد خاب مطلبه ومسعاه؛ لأنه تعلق بعاجز ضعيف، لا يقدر على نفع نفسه، فكيف ينفع غيره؟ وفي الحِكَمِ: (لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك، فكيف ترفع إلى غيره ما كان هو له واضعاً؟! من لا يستطيع أن يرفع حاجته عن نفسه، فكيف يكون لها عن غيره رافعاً؟).
قال بعض الحكماء: من اعتمد على غير الله فهو في غرور؛ لأن الغرور ما لا يدوم، ولا يدوم شيء سواه، وهو الدائم القديم، لم يزل ولا يزال، وعطاؤه وفضله دائمان، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء، في كل نفس وحين وأوان وزمان. اهـ. وقال وهب بن منبه: أوحى الله تعالى إلى داود: يا داود؛ أما وعزتي وجلالي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دُون خلقي، أعلم ذلك من نيته، فتكيده السموات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، وإلا جعلت له منهن فرجاً ومخرجاً. أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعلم ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السموات من يده، وأسخت الأرض من تحته، ولا أبالي في وادٍ هلك. اهـ. وبالله التوفيق.


يقول الحق جل جلاله: {وقال الذين كفروا} أي: تمردوا في الكفر والطغيان. قيل: هم النضر بن الحارث، وعبد الله بن أمية، ونوفل بن خويلد، ومن ضاهاهم.
وقيل: النضر فقط، والجمع؛ لمشايعة الباقين له في ذلك. قالوا: {إنْ هذا}؛ ما هذا القرآن {إلا إفكٌ}؛ كذب مصروف عن وجهه {افتراه}؛ اختلقه واخترعه محمد من عند نفسه، {وأعانة عليه} أي: على اختلاقه {قومٌ آخرون}، يعنون: اليهود، بأن يلقوا إليه أخبار الأمم الدارسة، وهو يعبر عنها بعبارته. وقيل: هم عدَّاس، ويسار، وأبو فكيهة الرومي، كان لهم علم التوراة والإنجيل. ويحتمل: وأعانه على إظهاره وإشاعته قوم آخرون، ممن أسلم معه صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {فقد جاؤوا}، وأتوا {ظُلماً} أو: بظلم، فقد تستعمل (جاء) بمعنى فعل، فتتعدى تعديته، أو بحرف الجر، والتنوين للتفخيم، أي: جاؤوا ظلماً هائلاً عظيماً؛ حيث جعلوا الحق البيِّن، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إفكاً مفترى من قول البشر، وجعلوا العربي الفصيح يتلقى من العجمي الرومي، وهو من جهة نظمه الفائق وطرازه الرائق؛ لو اجتمعت الإنس والجن على مباراته لعجزوا عن مثل آية من آياته. ومن جهة اشتماله على الحكم العجيبة، المستتْبعة للسعادات الدينية والدنيوية، والأمور الغيبية، بحيث لا يناله عقول البشر، ولا تفي بفهمه الفهوم، ولو استعملوا غاية القوى والقدر. {و} أتوا أيضاً {زُوراً} أي: كذباً كثيراً، لا يُبْلَغُ غايتُه؛ حيث نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم ما هو بريء منه.
{وقالوا أساطيرُ الأولين} أي: هو أحاديث المتقدمين، وما سطروه من خرافاتهم؛ كرُستم وغيره. جمع أسطار، أو أسطورة، {اكتتبها}؛ كتبها لنفسه، أو: استكتبتها فكُتبت له، {فهي تُملى عليه} أي: تُلقى عليه من كتابه {بكرةً}: أول النهار {وأصيلاً}؛ آخره، فيحفظ ما يتلى ثم يتلوه علينا. انظر هذه الجرأة العظيمة، قاتلهم الله، أنى يؤفكون؟.
{قل} يا محمد: {أنزله الذي يعلم السرَّ في السمواتِ والأرضِ} أي: يعلم كل سر خفي في السماوات والأرض، يعني: أن القرآن، لما اشتمل على علم الغيوب، التي يستحيل عادة أن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم من غير تعلم إلهي، دلَّ على أنه من عند علام الغيوب، أي: ليس ذلك مما يُفْتَرَى ويختلق، بإعانة قوم، وكتابة آخرين؛ من الاحاديث والأساطير المتقدمة، بل هو أمر سماوي، أنزله الذي لا يعزب عن علمه شيء، أودع فيه فنون الحِكَم والأحكام، على وجه بديع، لا تحوم حوله الأفهام، حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته، وأخبركم بأمور مغيبات، وأسرار مكنونات، لا يهتدي إليها ولا يوقف عليها إلا بتوقيف العليم الخبير، ثم جعلتموه إفكاً مفترى، واستوجبتم بذلك أن يصبَّ عليكم العذاب صباً، لولا حِلمه ورحمته، {إنه كان غفوراً رحيماً}؛ فأمهلكم، ولم يعاجلكم بالعقوبة.
وهو تعليل لما هو المشاهد من تأخير العقوبة عنهم، أي: كان أزلاً وأبداً مستمراً على المغفرة والرحمة، فلذلك لم يعاجلكم بالعقوبة على ما تقولون في حقه وفي حق رسوله، مع كمال اقتداره.
ثم ذكر طعنهم فيمن نُزل عليه، فقال: {وقالوا مَالِ هذا الرسولِ} وقعت اللام في المصحف مفصولة عن الهاء، وخط المصحف سُنّة لا يغير. وتسميتهم إياه بالرسول سخرية منهم، كأنهم قالوا: أي شيء لهذا الزاعم أنه رسول؛ يأكل الطعام كما تأكلون، ويمشي في الأسواق لابتغاء الأرزاق كما تمشون، أي: إن صح ما يدعيه فما له لم يخالف حالنا؟! {لولا أُنزل إليه ملَكَ} على صورته {فيكون معه نذيراً}، وهذا منهم تنزل عن اقتراح كونه صلى الله عليه وسلم ملكاً مستغنياً عن المادة الحسية، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يُصدقه، ويكون ردءاً له في الإنذار، ويُعبر عنه، ويفسر ما يقوله للعامة.
{أو يُلْقَى إليه كنزٌ} من السماء، يستغني به عن طلب المعاش معنا، {أو تكونُ له جنةٌ}؛ بستان {يأكل منها} كالأغنياء المياسير. والحاصل: أنهم أول مرة ادعوا أن الرسول لا يكون إلا كالملائكة، مستغنياً عن الطعام والشراب، وتعجبوا من كون الرسول بشراً، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك يُصدقه ويعينه على الإنذار، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون معه كنز، يستظهر به على نوائبه، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون رجلاً له بستان يأكل منه، كالمياسير، أو نأكل نحن منه، على قراءة حمزة والكسائي.
قال تعالى: {وقال الظالمون} وهم الكفرة القائلون ما تقدم، غير أنه وضع الظاهر موضع المضمر، تسجيلاً عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيه. وهم كفار قريش، أي: قالوا للمؤمنين: {إن تتبعون}؛ ما تتبعون {إلا رجلاً مسحوراً}؛ قد سُحر فغلب على عقله، {انظر كيف ضربوا لك الأمثال} أي: انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقاويل العجيبة، الخارجة عن العقول، الجارية؛ لغرابتها، مجرى الأمثال، واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال الشاذة، البعيدة عن الوقوع؟! {فضلّوا} عن طريق الجادة {فلا يستطيعون سبيلاً}؛ فلا يجدون طريقاً إليه، أو: فلا يجدون سبيلاً إلى القدح في نبوتك، بأن يجدوا قولاً يستقرون عليه، أو: فضلّوا عن الحق ضلالاً مبيناً، فلا يجدون طريقاً موصلاً إليه، فإن من اعتاد استعمال هذه الأباطيل لا يكاد يهتدي إلى استعمال المقدمات الموصلة إلى الرشد والصواب. وبالله التوفيق.
الإشارة: تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية، فإن سمع أهل الإنكار منهم علوماً وأسراراً قالوا: ليست من فيضه، إنما نقلها عن غيره، وأعانه على إظهارها قومٌ آخرون، قل: أنزلها على قلوبهم الذي يعلم السر في السماوات والأرض، أنه كان غفوراً رحيماً، حيث ستر وصفهم بوصفه ونعتهم بنعته، فوصلهم بما منه إليهم، لا بما منهم إليه. وقوله تعالى: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق}، أنكروا وجود الخصوصية مع وصف البشرية، ولا يلزم من وجود الخصوصية عدم وصف البشرية، كما تقدم مراراً. والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7